المسلم والثقة بالنفس
الدكتور / بدر عبد الحميد هميسه
المسلم إنسان يثق دائما بنفسه , وهو يستمد ذلك من ثقته بربه وخالقه , فهو لا يهتز أمام العواصف والأعاصير , والمسلم الواثق بنفسه يتصف بصفات كثيرة منها :
1- يمارس فريضة التفكير :
خلق الله تعالى الإنسان وزوده بنعمة العقل والتفكير ، وحثه على زيادة النظر في الكون ، فهذا مفتاح من مفاتيح الإيمان والهداية ، وصفة من صفات أولى الألباب قال تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } سورة آل عمران آية : 191 .
ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تفكيراً وتأملاً فيما خلق الله تعالى ، وفى سير الماضين وهو الذي قال : ( لا عبادة كالتفكر ) وقال : ( إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه ) رواه الديلمي في مسنده : كشف الخفاء ، جـ1 ، صـ81 . .
والإنسان العاقل وهو يمارس دوره في هذه الحياة لابد له من ممارسة التفكير ؛ وذلك حتى يكون قادراً على فهم دوره ، وإحسان ما يقوم به من عمل فتحسين التفكير كتحسين العمل والتصرف كتحسين كل هذه التطلعات والمطامع لا تتحقق ولا يبلغها المرء إلا بشئ واحد ووسيلة واحدة هي السيطرة على النفس .
والواثق من نفسه دائماً يعمل عقله فيما بين يديه ، ويمارس التفكير الصائب الواعي .
2- يعرف طريقه ويخطط لحياته :
الواثق من نفسه يعرف طريقه جيداً ـ ويخطط لكل أمور حياته ، ويحدد أهدافه بكل دقة ، فلا يدع غيره يفكر له ، ولا يترك نفسه للظروف ، لأنه هو الذي يصنعها وليست هي التي تصنعه ، ولقد وصف الله هؤلاء في كتابه الكريم فقال { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } سورة الملك : آية : 22 . .
ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ، فقد كان يخطط لكل أموره ، فها نحن نراه في الهجرة الكريمة يحدد لكل واحد دوره وماذا يفعل ؟ وفى جميع غزواته كان ينظم جيشه ويحدد لكل قائد هدفه . وكل ما يصنعه الإنسان أو يمتلكه يبدأ في شكل من أشكال الرغبة وأن هذه الرغبة تبدأ رحلتها من المجرد إلى الملموس من خلال ورشة الخيال حيث تصنع وتنظم خطط تحويل الرغبة إلى مادة .
والإسلام العظيم لم يترك الإنسان يعيش حياته عبثاً ، بل أرشده إلى كل ما يصلح حياته من كافة النواحي ، الذاتية والعامة مادياً وروحياً وعقلياً وإنسانياً ، وكل ذلك من أجل أن يبذر فيه بذرة الثقة والثبات على المبدأ .
3- لا يسمح للقلق أن يدمر حياته :
القلق يفقد الإنسان سكينه النفس وأمنها ورضاها ، ويجعله يتحسر على ماضيه ، ويسخط على حاضره ، ويخاف من مستقبله ، والقلق يمارس نشر نشارة الخشب ، ويستسلم لآلامه وأحزانه وحسراته على ما فاته ، وكان أولى به أن يقول :
ما مضى فات ، والمؤمل غيب * * ولك الساعة التي أنت فيها
يقول صاحب كتاب " دع القلق " " لقد وجدت أن القلق على الماضي لا يجدي شيئاً تماماً كما لا يجد بك أن تطعن الطعين ، ولا أن تنشر النشارة وكل ما يجديك إياه القلق ، هو أن يرسم التجاعيد على وجهك ، أو يصيبك بقرحة المعدة " ، والقلق يهزم صاحبه قبل أن يبدأ المعركة ، فمن ظن أنه قد هزم فقد حزم حقاً ، ومن ظن أنه ليس مقداماً فلن يكون مقداماً ، ومن ظن أنه يفوز فلن يفوز أبداً .
ولا نقول بأن القلق شر كله بل إن القلق إحساس لا غنى عنه ولا استغناء ، إنه لازمة لابد منها ، إنه الحافز والموجه والمنبه ... ولكنه إحساس يجب أن نلجمه لئلا ينقلب إلى وحش مفترس . فالانفعالات المتضاربة التي ينبت منها القلق إن تركت حرة تعيث فساداً وتقضى على العاقل عاجلاً أو أجلاً.
لذا فإن الإسلام يرفض من المسلم نظرة اليأس والتشاؤم ، قال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } سورة يوسف آية : 87 . وقال أيضاً : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } سورة الحديد آية : 22- 23 .
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً يحتذي في عدم اليأس والأمل الكبير في الله عز وجل فعلى الرغم مما فعله معه كفار مكة من أذى وعناد وتعذيب ، ورفض وإنكار لدعوته ، إلا أن اليأس لم يتسرب إلى قلبه بل ظل واثقاً بنصر الله تعالى ، ويطمأن أصحابه بقوله : " لكنكم تستعجلون " ، وكان صلى الله عليه وسلم دائماً " يتفاءل ولا يتطير " رواه أحمد .
ويرفض أن يفتح المسلم على نفسه أبواب الشيطان بكلمة " لو " أو " ليت " ، وحذر صحابته من الاستسلام للهموم ، فقد رفض مسلك أحد صحابته بالجلوس في المسجد والاستسلام لهمومه وعلمه أن يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، وهو بذلك يريد أن يغرس بذور الأمل والتفاؤل في نفس المسلم حتى يواجه مصاعب الحياة بنفس مؤمنه واثقة وذلك لأن " الأمل متفائل بما يلقاه في الحياة مستبشر بأيامه القادمات ، يحمل ما يراه على المحمل الحسن ، وهذا يؤدى به إلى مزيد عطاء وانطلاقة خير " محمد أبو صعليك : الأمل وأثره في حياة الأمة ، صـ 25 ..
ولكي يبعد الإنسان عن نفسه منابع القلق والقنوت واليأس عليه أن يعيش في حدود يومه ، ولا يزحم رأسه بالقلاقل والأفكار المتشعبة والمستحيلة في بعض الأحيان " فكل ما تحتاج إليه من أجل النجاح هو فكرة واحدة معقولة قابلة للاستعمال ، فإن أهم نقاط الضعف في الجنس البشرى هي اعتياد الإنسان العادي على كلمة ( مستحيل ) فهو يعرف كل القواعد التي لا تنجح ويعرف كل الأمور التي لا يمكن تنفيذها ، ولقد أصاب النجاح كل الذين امتلاء وعيهم بالنجاح وكيفية تحقيقه ، أما الفشل فيصيب أولئك الذين يسمحون للفشل دون اكتراث أن يمتلك وعيهم. فاليأس والقلق عدوان للتفاؤل والثقة ولا يمكن لهما أن يجتمعا أبداً .
4- إيجابي .. يبادر ولا يتردد :
وصف الله تعالى أمة الإسلام بأنها خير أمة أخرجت للناس ، لأنها أمة إيجابية ، لا ترضى بغير الحق منهاجاً وطريقاً ، فلا ترى الباطل وتتطامن عنه ، ولا ترى الخير والمعروف ثم لا تتخذه شعاراً وسبيلاً ، قال تعالى :{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } سورة آل عمران آية : 110. ولقد ربى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على الايجابية وعدم السلبية فأمر المسلم بأنه إذا رأى منكراً بأن يغيره قدر استطاعته ( بيده ، أو بقلبه ، أو بلسانه ) لأنه مسئول وكل واحد مسئول عن نفسه وعمن يعول .
ولقد حذرنا - صلى الله عليه وسلم - من الإمعية فقال : " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا ألا تظلموا " رواه الترمذى وحسنه . .
ومن الايجابية أن يتحمل المسلم مسئولية كاملة نحو نفسه ومجتمعه وأمته ، ولا يكون كما قال الشاعر :
كريشة في مهب الريح طائرة * * لا تستقر على حال من القلق
ومن الايجابية أن يبادر المسلم ولا يتردد فإن من أشر الناس عند الله تعالى ذو الوجهين ، فالمتردد خائف وجل يفوت على نفسه فرص النجاح ، أما الواثق فهو دائماً يبادر ولا يخاف .
في غزوة بدر تقدم الحباب بن المنذر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما نزل المسلمون بأسفل بئر بدر فقال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم منزلة ثم تغور ما وراءه من القلب ثم نبنى عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله : لقد أشرت بالرأي ..." سيرة ابن هشام ن جـ2 ، صـ197 – 198.
فالحباب إنسان مبادر ، اكتسب صفة المبادرة ، وهى صفة لا تليق إلا بالواثق ، فحينما تريد أن تكتسب عادة حسنة جديدة فعليك بالقناعة ثم الرغبة ثم ابدأ بقوة شديدة وعزيمة قوية ولا تتوان مرة واحدة عند إتباع العمل الجديد حتى ترسخ العادة الجديدة فيك بعد أن تصمم على العمل اغتنم أول فرصة وكل فرصة للقيام به . قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر الصديق – رضي الله عنه - : " ما عرضت الإسلام على أحد ، إلا كانت له كبوة عدا أبى بكر ؛ فإنه لم يتلعثم " .
يروى أنه حينما تولى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه وفد من اليمن للتهنئة بالخلافة وكان يتقدم هذا الوفد طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره فلما رآه عمر قال له : يا غلام تأخر وليتقدم من هو أكبر منك سنا ، فقال الغلام المبادر الواثق من نفسه ـ يا أمير المؤمنين ، إنما المرء بأصغريه قلبه ,لسانه ، فإذا أعطى المرء قلبا حافظاً ، ولساناً لافظاً فقد استحق الذكر وإذا كان الأمر كذلك – أي بالسِن - ففي المدينة من هو أكبر منك سِنا أولى بالخلافة منك " فأعجب به أمير المؤمنين وأنشده :
تعلم فإن المرء لا يولد عالماً *** وليس أخو علم كمن هو جاهلُ
وإن كبير القوم لا علم عنده *** صغير إذ التقت عليه المحافلُ
والإنسان الواثق المبادر ثابت على المبدأ لا يتزعزع ولا يتلون قال الشاعر :
إذا قلت في شئ نعم فأتمه * * فإن نعم دين على الحر واجبُ
وإلا فقل لا تسترح بها * * لئلا يقول الناس : إنك كاذبُ
وإيجابية المسلم يجعلها ديدنه لكل تصرفاته حتى مع الجمادات .
فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له " رواه البخارى ومسلم . .