لن نتكلم عن الاعتذار باعتبار معناه اللغوي وما خاضه أهل اللغة وأصحاب الصنعة في بيان مفرداته هنا أو هناك ، وإنما سنتكلم تلقائياً عن الاعتذار عبر التاريخ سواءاً كان قبل البعثة أو بعد البعثة أو في عصرنا الحاضر .
والمقصود من ذلك ذكر مواقف متعددة من الاعتذار يظهر فيها بجلاء نفع كبير لمن تدبره و تأمله ، الاعتذار أحياناً يكون :اعتذاراً مبنياً على العناد و الكبر والكفر والجحود ومن أمثلته الظاهرة :
*قول ابن نوح لما قال الله جل وعلا عنه حكاية عن من خبر نوح وابنه قال: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء}فقول ابن نوح : { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء } هذا اعتذار لأبيه بأن لا يركب معه ، لكن هذا الاعتذار إنما هو مبني على الكفر والعناد والجحود وإن قلنا إن ابن نوح كان يعلم أنه طوفان يصبح المعنى كفر عناد ، وإن قلنا: أن ابن نوح لم يكن يعلم أنه الطوفان فيكون مبني على الجهل المركب ، ذلك أن العذاب عياذٌ بالله يكمن كبره وعظمته إذا كان المتلقي له لا يدرك أنه عذاب ، فيقول بعض أهل التحقيق من أهل التفسير : إن مصيبة ابن نوح العظمى أنه لم يكن يعلم أن هذا عذاب ، أو بتعبير أحرى كان يرجع ذلك الطوفان إلى الطبيعة وأنه مجرد أمرٌ ظاهر ، وأنه لم يرتكب ذنباً ، وأن أحداً من الأرض لم يقترف جرماً يستحق عليه أن يأتي طوفان يُذهب الأرض جمعا ، فقال بتعبير حاله الذي مبني على علمه :{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء } لذلك كان جواب نوح { قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } .
* ثم يأتي التاريخ بخبر يوسف وما كان من إخوته وتآمرهم عليه فلما قدموا إلى أبيهم وليس معهم أخوهم { وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } كما قال الله جل وعلا ، جاءوا باعتذار مبني على الخديعة لكنهم لم يحكموا الصنعة فإنهم قدموا بالقميص كاملاً غير ممزق وجعلوا مع ذلك القميص دم كذب وهو دم شاة ذبحوها قال الله جل وعلا : {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ{16} قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } ثم ذكروا في ثنايا اعتذارهم ما يدل على كذبهم قالوا : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } قال ربنا: { وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال بعض أهل التفسير إن يعقوب عليه السلام أخذ القميص قال :" أي ذئب عاقل هذا أكل ابني وترك قميصه " فالاعتذار هنا مبني على إحكام صنعة مكرٍ لم تكتمل .
* في التاريخ الإسلامي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم جاء المنافقون إلى النبي عليه السلام قبل ذهابه إلى تبوك وطلبوا منه أن يصلي في مسجد الضرار فاعتذر إليهم صلى الله عليه وسلم ، الآن من المعتذر ؟ الرسول اعتذر إليهم أنه مشغول بسفره وأنه على أهبة سفر و لا يمكنه الآن أن يصلي في مسجدهم الذي بنوه ،ووعدهم أن يصلي إذا عاد فهذا الاعتذار منه صلى الله عليه وسلم قبل علمه أن هذا المسجد، { اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ }كما أخبر الله في سورة التوبة فكان اعتذاره صلى الله عليه وسلم وإن كان غير مبني على علم بحالهم إلا أنه كان اعتذاراً منجياً له عليه السلام وهذا من عظيم توفيق الله لنبيه لأنه لو صلى لكان حجة لهم في أن يجعلوا لهذا المسجد قداسة معينة أرادوها فكانوا قد ساءت سريرتهم في أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المكان فيصلي فيه فكان تزكية له قال الله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فجاء الأمر القرآني { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } هذا كله بعد غزوة تبوك لكن قبل الذهاب اعتذر صلى الله عليه وسلم لما كان يشغله من الاستعداد للغزوة والسفر .
* يأتي التاريخ كذلك فيحدثنا عن اعتذار كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضوان الله تعالى عنهم هؤلاء اعتذروا لكن جعلوا الصدق مطيتهم فصدقوا الله فصدقهم ولهذا قال الله جل وعلا بعد أن ذكر خبر اعتذارهم قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } فكعب يقول يا نبي الله لقد أعطيت جدلاً أنا رجلاً ذو فصاحة ذو بيان ذو بلغة في الكلام و استطيع أن أخرج منك بعذر لكنه قدم جانب الصدق لعلمه أن الله جل وعلا سيوحي إلى نبيه بحقيقة الأمر فكان في صدقه نجاته رضي الله تعالى عنه وأرضاه .